(1)
خرجت السفينة تزحف من البحر على الشاطئ وهي تشتعل فكان مجرد لمسها للهواء يُضرِم فيها النيران كأنها قد خرجت إلى الجحيم عليها مائة صاري مشتعل الأطراف وأشرعتها مغزولة من نار كأنها أشجار أوراقها من لهب وكان عليها ناس يبدون بخير كأنهم في رحلة ورغم أن منظرها كان رهيبًا إلا أن دكرور لم يرتهب بل على العكس كان هو ورفاقه يسبحون إلى جانبها كأنهم هم من أحضروها إلى البر وكلما سبحت في اليابسة أكثر كلما طال الطريق الأسود الذي تخلفه وراءها من الأشجار المتفحمة والركام الأسود المساوي للأرض ووصلت السفينة إلى الشاطئ المقابل للذي خرجت منه كأنها زحفت نصف العالم ودكرور ينتظرها على ذلك الشاطئ ليحيّيها ويودّع من عليها بعد أن عادت إلى البحر فلوّح إليهم بيده ليجدها تشتعل
ربما نسيَ دكرور ذلك الحلم فور أن استيقظ، لكنه علم أنه لم يكن حلمًا سعيدًا، وشعر بتأثيره الغريب عليه، وأن هناك شيئًا خاطئًا في العالم، لكن أكثر ما جعله يشعر بالغرابة هو أنه قد نام بعمق خارج الجوف، جعله ذلك يشعر بعدم الأمان وأنه مكشوف.
كان الصداع يضرب رأسه مع كل حركة، وكان مغطى كله بملاءة إلا يده كانت عارية في الشمس لتأكلها، فأحس بها كأنها تحترق، رفع الملاءة عنه ليجد نفسه على القارب ومافي وسيجورد وأوين وعمار يعطونه ظهورهم ويجدفون بمحاذاة الشاطئ، فشعر به أوين والتفت وقال عندما رآه:
- انظروا من عاد إلى الحياة!
لم يرُد دكرور عليه، كما أنه يعلم أنه قد ذهب صوته بالفعل، فاكتفى بأن سبّه في سره، وإذ إنه كان ثملًا بشدة في الليلة الماضية؛ فلم يتذكر سوى أنه ظل في القارب يتأمل النجوم، حتى أصابه النعاس وغاب عن الوعي.
كان موريس يجلس مواجهًا لهم، يستند إلى مجداف التوجيه في كسل وبالكاد يحركه، حين أجاب دون أن يُسئَل:
- لم نرسو في نانتوكيت يا دكرور، لكننا في... أين نحن يا جيرترود؟
- سكونست.. للمرة الألف إنها قرية سياسكونست!
- ...سياسكونست، ونحن الآن متجهون إلى أقارب لجيرترود يعيشون هناك لنستأجر منهم مركبًا أكبر يقلنا إلى نانتوكيت
سكت موريس وظل ينظر إلى دكرور بفتور كأنه نعسان، ثم أردف:
- هذا كل شيء.. هل نسيتُ شيئًا يا عزيزتي جيرترود؟
- لا، لم تنسَ شيئًا سوى أننا بالفعل على جزيرة نانتوكيت، فقط المدينة تقع على الجانب الآخر من الجزيرة
كانت جيرترود تجلس بالقرب من دكرور عند مقدمة القارب وتعطي ظهرها للرجال، وتكلمهم بنصف وجهها دون أن تلتفت كلها، فمدّ دكرور رأسه ليرى ما الذي تخبئه، ولم يرَ شيئًا سوى قدما رضيعها، فعاد ينظر إلى الرجال في حيرة، فأشار إليه سيجورد أن يقترب، وأخبره بصوت خفيض:
- إنها على هذا الحال منذ أن ركبنا القارب.. لا نعلم ما الذي تخبئه، انظر وأخبرنا ما هذا الذي لا تريدنا أن نراه
نظر دكرور إلى جيرترود بشك، ولا تزال رؤيته مشوشة من أثر النوم، واستند على حافة القارب ومدّ جسده كله بجانبها، وقبل حتى أن يلمح ما بين يديها؛ انكمشت بعصبية ودوّرت نفسها عنه بسرعة، وهي تقول بدهشة وازدراء كأنه قد رأى عورتها:
- ماذا تفعل أيها الحقير؟!
إلا أنه بالفعل كاد أن يرى عورتها، وعلم أن ما تخبئه في صدرها هو صدرها نفسه، فكوّن فكرة عمّا كانت تفعل على الفور، بعد أن تذكر أن إناث البشر يقمن بإرضاع أطفالهن.
وانفجر سيجورد وجميع الرجال في الضحك حتى موريس، وقد توقفوا عن التجديف، فأراد دكرور أن يضرب سيجورد، وأن يعلمهم أنه يستعر غضبًا، لكنه يعلم أن ذلك لن يجدي بينما يضحك هو الآخر، فاكتفى بأن اتخذ مكانه يجدف وهو ما يزال يضحك ويشعر بالغضب والخجل في آنٍ واحدٍ.
عادت جيرترود تجلس تواجه الرجال بعد أن سترت نفسها، وهم يعطونها ظهورهم إلا موريس، ولاحظ دكرور حين التفت أنها تنظر إليه بطرف عينها بازدراء واشمئزاز ثم قالت:
- كنت أعلم أنك المنحرف بينهم!
نظر دكرور إلى موريس بدهشة لا تخفي ابتسامة، ربما يريده أن ينصفه، لكنه شعر بالإحباط حين رآه لا زال يضحك وغير قادر على الكلام مثل البقية، فقال سيجورد بتهكم شديد:
- بالفعل! معكِ كل الحق يا سيدة وينسلو، لقد سئمنا من انحرافات ذلك المنحرف، لكن لا تقلقي.. ما دمتُ موجودًا فلن أجعله يقترب منكِ
- أشكرك يا سيد سيجورد! أنت رجل محترم
قرر دكرور ألا يبدي أي رد فعل على الغضب أو الضيق، وأن يسمح بذلك من أجل خاطر المزاح والمرح فقط، حتى قالت جيرترود:
- بالطبع لا تتكلم، هل هذا حياء؟ لم أعلم أن لديك ذرة منه.. لا شك أن أخلاقك تلك هي ما ساقتك إلى بطن ذلك الحوت
ترك دكرور المجداف، وأمسك بأقرب حربة إلى يده، ونهض بعصبية يصوب الحربة إلى وجهها، فجفلت وارتعبت كأنها رأت عفريت، وانكمشت على رضيعها وهي تنظر إلى دكرور برعب وترقب.
أفاق دكرور من نوبة غضبه على صوت موريس وهو يقول:
- ضع الحربة يا دكرور.. من فضلك!
ثم وجد نفسه يلهث كأنه كان يركض لكنه كان من مجهود الغضب فحسب، فأرخى الحربة من يده كأنها ثقلت فجأة، ثم ألقاها بعصبية، وعاد إلى مكانه، وعادت جيرترود تجلس معتدلة، فقال لها موريس:
- إن تفوّهتِ بكلمة أخرى...
قالها بتلك النبرة الحادة الهادئة التي لا تدع مجالًا للنقاش بعدها، فعاد الصمت إلى القارب، وعاد الرجال يجدفون في تناغم، حتى قال موريس من دون أن تتغير نبرته:
- والآن يجب أن نتفق على شيء واحد مهم.. ماذا ستقولين لأقربائك حين نصل؟
حارَت جيرترود وأخذت تبحث عن إجابة لذلك السؤال، كأنها كانت تعرفها لكن نسيَتها، ثم قالت بتلعثم وتوتر:
- أه! ربما سأخبرهم أن أممم!.. أن جيمس أرسلكم معي لكي... ربما لكي...
قاطعها موريس:
- لكي تَصِلي بسلام.. هذا جيد، حسنًا يا رجال.. إذًا نحن بحارة القبطان جيمس وينسلو.. قبطان السفينة...؟
ثم نظر إلى جيرترود فأجابت على الفور:
- آڤريك!
- إذًا نحن بحارة القبطان وينسلو.. قبطان السفينة آڤريك.. والتي أبحرت منذ سبعة أشهر مفهوم؟ هل من شيء آخر يجب أن نعلمه يا عزيزتي؟
- لا أعلم.. فقط إن جيمس لم يكن يقبل فكرة وجود بشر في بطون الحيتان، كان يعاقب من يتكلم في الأمر حتى
- ونحن أيضًا لا نصدق ذلك، صحيح أيها الرجال؟!
فعادوا يضحكون إلا مافي الذي بدا كأنه مشغول بالتفكير في شيء، فسأل جيرترود بعد أن توقف عن التجديف:
- مهلًا! كم عمر هذا الرضيع؟
- سبعة أشهر
- هل ولدتِه على متن السفينة؟
- لا بالطبع.. لقد أبحرنا بعد أسبوع من الولادة، كنت لا أزال...
قاطعها موريس:
- دعكِ من هذا، والآن كلنا نعلم أنكِ فتاة ذكية، ولا داعي لإخباركِ عمّا سنفعل إن أخبرتِ أحدًا عمّا رأيتيه، لكن اعلمي جيدًا أننا سنعلم إن فعلتِ.. مفهوم؟
كانت جيرترود تتصبب عرقًا، وربما أرادت أن تبكي حين قالت:
- ممفهوم يا سيد موريس! لكن يجب أن تعلم أيضًا أن العم إدموند يصدق هؤلاء الذين يؤمنون بأن هناك بشرًا في بطون الحيتان
- لا يهمني ما يصدقه العم إدموند بالفعل، بل ما الذي سنجعله نحن يصدق.. هل هذا واضح؟!
أومأت جيرترود، فأردف موريس:
- نشكركِ على تفهمكِ يا سيدتي، ونحن ممتنون جدًا لمساعدتكِ، ونعتذر عمّا سببناه لكِ من مشاكل
فكر دكرور بحسرةٍ ساخرة "ومن سيعتذر لنا عما سببته هي من مشاكل"، ثم قال عمار:
- سأكون ممتنًا أكثر إذا وصلنا!
توقف الرجال عن التجديف للاستراحة والتقاط الأنفاس، فنهضت جيرترود وأشارت إلى الشاطئ وهي تقول بعصبية:
- لمَ توقفتم؟.. لقد وصلنا!
★★★
كانت جيرترود تشير إلى مرفأ صغير يرسو عليه مركب بشراعٍ واحد، وعدة قوارب أصغر، ومثلها على طول خط الساحل كان صف من القوارب مقلوبة على الرمال، ووراء ذلك في مساحة كبيرة من الرمال الصفراء والأراضي الخضراء؛ كانت تقع عدة بيوت صغيرة متفرقة، فبدت معًا أشبه بقرية صغيرة بالفعل، وجميعها من الخشب كأنها سفن تسبح في البر بطريقتها الخاصة.
ربطوا قاربهم عند المرفأ، ونزلوا جميعًا، فقال موريس:
- ستتولين معظم الكلام يا جيرترود، ولا تنسي اتفاقنا.. من بعدكِ!
وتقدمت جيرترود المسير تحمل رضيعها بين يديها نحو أحد المنازل، والذي كان وراء المرفأ الصغير وكان أقرب البيوت إلى البحر، فوقفت أمام الباب وانتظر الرجال وراءها، فأخذت نفسًا عميقًا وطرقت الباب.
ولم تنتظر كثيرًا حتى فتحت فتاة أصغر منها، ونظرت إليها برهة ثم قالت بتعجب:
- جيرترود؟!!
ثم جاءت فتاة أخرى ربما في سن جيرترود بدت عليها الدهشة الشديدة لرؤيتها، ومن دون أن تتكلم تبادل ثلاثتهم العناق، وأعطت جيرترود رضيعها إلى الفتاة الكبيرة لتحمله.
والرجال يقفون في صمت وثبات، حتى جاء صوت من وراءهم يقول:
- من أنتم؟
كان رجلًا عجوزًا ربما في عقده السادس مثل موريس، لكن أصلع وليس بنصف هيبته حتى، كان يحمل مِحراثًا بكلتي يديه كأنها حربة يقاتل بها، وقبل أن يجيبه أحد على سؤاله هرعت جيرترود إليه وهي تقول بعصبية:
- عمي إدموند! انتظر!
رآها الرجل فتبدلت ملامحه، وعانقته بقوة فبادلها العناق في ذهول وقال:
- عزيزتي ترودي! كيف جئتِ إلى هنا؟ ومن هؤلاء؟
ردّت جيرترود في ثبات وثقة ومن غير تلعثم:
- لقد أرسلهم جيمس معي
- هل عاد بالفعل؟! لم تمر سبعة أشهر!!
ثم نظر إلى الرجال يتفحصهم وقال:
- وأرسل معكِ ستة؟!
ثم نظر إلى المرفأ وأردف:
- في قارب تحويت؟!
ثم نظر إلى البحر وسأل:
- أين هو ذلك الحثالة الأرعن؟
- لقد أكمل الإبحار، أنا فقط رحلتُ لأني مريضة، ومن الصعب العناية بإدموند الصغير في البحر وعلى سفينة تحويت
احتضن العجوز وجه جيرترود بكلتي يديه، وقال بحنان:
- لكنك تبدين بخير يا عزيزتي... مهلًا! هل سميتيه إدموند؟! أين ذلك الصغير؟
- إنه مع بياتريس
- حسنًا فلنعد إلى الداخل.. وأنتم أيها البحارة يمكنكم العودة إلى سفينتكم وقبطانكم
قالها وهو يهش بيده في ازدراء وغطرسة كأنه يطردهم، فاكفهرّ وجه جيرترود وتلوّن وهي تنظر إلى موريس يتقدم ويمدّ يده إلى العجوز وقال:
- موريس أليكساندر! صائد حيتان
صافحه العجوز في تردّد وشك قائلًا:
- إدموند كوفِن! صائد حيتان
أكملت جيرترود كلامه بعصبية شديدة:
- سابق!! صائد حيتان سابق.. ألم تعتزل تلك المهنة يا عمي؟
- سيُكتَب على قبري صائد حيتان رغم ذلك
قال موريس:
- على كل حال يا سيد كوفن، نريد أن نستأجر منك ذلك المركب للعودة إلى نانتوكيت في أقرب وقت، للانتهاء من بعض الأعمال، كما يجب إعادة ذلك القارب
- أه معلوم، لكن هذا سيكلفكم
- لا بأس، أرجو فقط ألا تكلفنا كرم ضيافتكم حتى نرحل
- إذًا سنرحل بكرةً مع أول ضوء للفجر، والآن هيا للداخل
كان داخل المنزل أصغر مما يبدو من الخارج، بدا موحشًا ومظلمًا حتى وضوء الشمس يدخله، وكانت مصابيح الزيت المطفأة تزين السقف، والحراب ورسومات لحيتان وسفن وقوارب؛ تزين الجدران.
كان الفتاتان مع الرضيع يلاعبانه، حتى دخل العجوز فأعطوه له، وأمرهن بتحضير المائدة للغداء، وساعدتهن جيرترود ودَعَت الرجال للجلوس على مائدة وحين أرادت الذهاب استوقفها موريس قائلًا:
- لقد أبليتِ حسنًا، لكن عليكِ أن تهدئي فلن يتأذى أحد.. مفهوم؟!
أومأت جيرترود وذهبت إلى الطابق العلوي، وصار الرجال وحدهم على المائدة، وأمامهم أطباق فارغة، فقال عمار بحماس وهو يفرك يداه معًا:
- لقد سار ذلك على نحو جيد!
فقال سيجورد بمرح:
- والفضل كله للسيد أليكساندر.. لم أكن أعلم أن اسمك الأخير أليكساندر
قال موريس:
- لقد كنتُ مسيو أليكساندر لفترة طويلة، قبل أن يعتاد عليّ هؤلاء الحمقى، وينادونني باسمي الأول
همس دكرور فسكتوا ليسمعوه وسأل سيجورد:
- ماذا عنكَ؟ ما اسمكَ الأخير؟
- جاتفولد! سيجورد جاتفولد
ثم أشار إلى مافي وسأله نفس السؤال فأجاب:
- مافي ابن ماني
ثم وكز عمار فقال:
- عمار عبد المؤمن
ضحك دكرور على كل حال، فقال عمار باستهزاء وسخرية:
- وماذا عنكَ أنتَ؟ أتعلمون؟.. إن دكرور ليس اسمًا حتى
فرَدّ موريس عنه وهو يضحك:
- إنه لا يعرف اسمه الثاني حتى يعرف الأخير
وضحك هو ودكرور فقط، ثم أشار دكرور إلى أوين وهمس إليه:
- وأوين إلوود أعرفه... ماذا عن البقية؟
فأجابه كل من تذكر اسم أحدهم، فقال موريس أولًا:
- هناك رالف كيبلينج، ودييجو جوتييريز، وتاندي بوتوي، وبوهاردي موجولوشي...
قاطعه عمار:
- مهلًا! كنت أعتقد أن بوهاردي اسمين معًا! صار الآن أربعة!!
ضحك الجميع، ثم قال مافي:
- بل إنه سامبار اسمه الحقيقي سامبا مبادار، وأوساي اسمه أوسا يولا لكنه كان أشبه بأسماء الفتيات، من أيضًا؟.. ودوراي أولوجيمي، و...
أضاف أوين:
- وويليام هاسكل، وهنري بوتش، وبيدرو جارسيا...
وأضاف موريس أخيرًا:
- وزيمان ديتريش، ولويس فيدالجو.. هل نسينا أحد؟
★★★
عاد كوفن وجلس مقابل موريس عند الطرف الآخر من المائدة، ومن بعده جاءت الفتاتين مع جيرترود التي عادت أنظف وحتى أجمل من قبل، وبدت كطفلة صغيرة من دون رضيعها بين ذراعيها، وملأنَ الأطباق الفارغة بالطعام، والأكواب الفارغة بالجعة، وجلس ثلاثتهن عن يسار كوفن، ثم قال له موريس:
- هاتان يجب أن يكونا بناتك
- أه! هذه بياتريس.. وتلك الصغيرة إدنا، وأنتَ لم تعرفنا على رجالك
ربّت موريس على كتف مافي الجالس عن يمينه وقال:
- هذا مافي...
وأشار عن يساره بالترتيب:
- وهذا أوين وعمار ودكرور وسيجورد
- لديك مزيج عجيب من الرجال يا سيد أليكساندر!
فقال عمار وهو يبتسم:
- انتظر حتى ترى أوساي!
ضحك كل الرجال، وحتى جيرترود فقالت مفسرة:
- إنه قزم يا عمي
قال كوفن في دهشة:
- قزم! على سفينة تحويت؟! كيف يسمح ذلك الرخيص البخيل بهذا، أعذريني يا عزيزتي لكني كنت أدعو على الآڤريك لكي تغرق...
ثم أضاف بمرح وسخرية:
- أو ترسل الحيتان رجالها إليها وإلى زوجكِ، لكن حين علمتُ أن ذلك الوغد قد أخذكِ معه...
فكر دكرور وهو ويحاول جاهدًا أن يكتم ضحكه "لقد علمتَ متأخرًا إذًا"، وضحك سيجورد ضحكة مكتومة وحاول أن يخفيها بيده، لكن سمعها كل من حوله، فقطع كوفن كلامه وقال:
- هل تظن أنها مزحة يا سيّد؟!
ردّ سيجورد والابتسامة لا تزال على وجهه:
- اعذرني يا سيدي!.. لكن هذا بالضبط ما أظنه
- إذًا أنتَ أحمق وأعمى مثل قبطانك، لكنك معذور.. أنا أيضًا كان الأمر أمام عيني ولم أرَه
قال مافي باستغراب:
- ما الذي كان أمام عينك؟
وضع موريس يده على ذراع مافي فسكت، وقال هو باهتمام:
- عفوًا يا سيد كوفن! ربما بإمكاني تصديق أن هناك بشرًا في بطون الحيتان؛ فقد فعلها النبي يونس من قبل، لكني أجد من المستحيل لعاقلٍ أن يصدق أن تلك الحيتان ترسل بشرًا لقتل الحوّاتين، أعني إن ذلك فقط.. ليس منطقيًا
- أتعلم ما الذي ليس منطقيًا؟ الاختفاءات المتزايدة للسفن، سفن التحويت تحديدًا، وفي الأطلسي تحديدًا.. هناك اختفاءات في الهندي والهادي أيضًا لكن ليس بكثافة الأطلسي
قال أوين:
- ولمَ لا تكون بسبب العواصف؟ أو الجليد؟ أو القراصنة؟.. لقد أصبحت سفن القراصنة أكثر من سفن التحويت، معذرةً يا سيد كوفن، لكن ليس معنى ألا يكون الشيء منطقيًا، أن يكون تفسيره غير منطقيًا مثله
- حسنًا ما تفسيرك إذا رأيتَ حطام سفينة دون أن يكون هناك سفينة أصلًا، حبال وبراميل فارغة وخشب وأمتعة؛ تطفو في مكانٍ واحد كأنها أُلقيَت معًا، القراصنة وإن لم يأخذوا السفينة، فإنهم يتركونها كما هي، والعواصف وإن أغرقت سفينة، فإنها لا تترك حطامها في مكانٍ واحد، يمكن أن يفعل الجليد ذلك، لكن لم يكن هناك جليد عند خط الاستواء في آخر مرة تفقدته، وآخر ما سمعت من تلك الأمور كان عن حطام سفينة محترق قرب الجليد في الشمال المتجمد، أخبرني يا سيد.. ما تفسيرك لكل ذلك؟
التقط الرجل أنفاسه وأخذ جرعة من شرابه، وأكمل في شرود كأنه يكلم طعامه:
- ما تفسيرك لعدم عودة زاك حتى الآن...
قاطعته الفتاة الكبيرة بياتريس:
- أبي!
أكمل والدها كأنه لم يسمعها:
- أنتظره منذ ثمانِ سنوات.. يقولون أن سفينته قد غرقت في جنوب الأطلسي... كانت تلك أول رحلاته
كانت جيرترود تحني رأسها على صدرها لتخفي وجهها، ثم ابتسم كوفن إليها ابتسامة يائسة وأردف:
- كان سيتزوج جيرترود بعد أن يعود...
لم يحتَج الكلام لإيضاحٍ، فسكت الجميع وأكملوا أكلهم في صمت ووجوم، حتى قال مافي:
- لقد قلتَ أن الأمر كان أمام عينك ولم ترَه، أعني.. هل هذا ما جعلك تراه؟
ردّ كوفن بثقة وقد عاد إلى صوابه:
- فقدان زاك ومثله كثيرين؛ هو ما كان أمام عيني، لكن الجُند الحوّاتون هم من جعلوني أرى الحقيقة
وأكمل أكله كأنه قال شيئًا عاديًا، وحين وجد الرجال ينظرون إليه وإلى بعضهم باستغراب؛ توقف عن الأكل وقال بسَأم:
- بربِّكم! كم عامًا قضيتم في البحر؟ لا يُعقل أنكم لا تعرفونهم، هل أنتم من الجزيرة أصلًا؟
رَد أوين:
- كما قلتَ يا سيد كوفن.. نحن مزيج عجيب من الرجال
- على كلٍ.. إنهم جماعة من الرجال يروجون ويشيعون تلك الفكرة، أو ربما هم من ابتدعوها في الأصل، بدأوا في الظهور منذ سنتين، ولهم القليل من العقلاء يصدقونهم، وهناك شركة أعطتهم سفينة
قال عمار بسرعة:
- هل لتلك السفينة اسم؟
- كان اسمها... أنا لم أرَها بعيني من قبل لكن... لا، لا أعرف اسمها
وقال موريس بلا مبالاة كأن الأمر لا يعنيه:
- سفينة! لماذا؟.. هل أصبحوا يوزعون السفن الآن؟ أليس الحوّاتون أولى بتلك السفينة؟
- لا، اسمع هذا! حين ذهبت إلى المدينة آخر مرة، كان حديث المدينة كلها عن أن هؤلاء الجنود الحوّاتون قد قتلوا حوت عنبر من تلك الحيتان، ومعه الرجال الذين بداخله
أشاح مافي بوجهه وقال تلك الكلمة التي تعني "اللعنة" بلغته الأصلية، ثم أضاف كوفن:
- سمعتُ أيضًا أن قائدهم لا يلمس ماء البحر، ولا يمسك الحربة، ولا ينظر إلى حوت حي
قال أوين:
- لا أعلم يا سيد كوفن، يبدون كطائفة من المتديّنين المتعصبين لا أكثر
- في الحقيقة يبدون مثلك يا سيّد!
انتبه له أوين أكثر وضيّق إليه عينيه وقال في استغراب:
- أستميحك عذرًا؟!!
- لقد رأيتُ بعضهم، وقد كانوا يشبهونك كثيرًا، فهم يحلقون رؤوسهم ووجوههم حتى لا يبقى فيها شعرة واحدة، ظننتكَ أحدهم أول ما رأيتكَ، قبل أن تثبتَ لي أنك غبي مثل قبطانك
ربما أراد أوين أن يرُد الإساءة، لكنه انشغل بالتحديق في طبقه في استغراق مثل باقي الرجال، حتى نبههم كوفن قائلًا:
- ماذا عنكَ أيها المحترم؟ لم أسمع صوتك منذ أن رأيتك
كان دكرور يجلس في سكون تام، بالكاد يحرك يده ليأكل، ويستمع بإنصات شديد، ويفكر في كل كلمة بعناية، ربما ابتسم مرة أو مرتين، وأومأ برأسه بضع مرات، لكن غير ذلك؛ فكان كأنه غير موجود.
واستغرق الرجال برهة حتى قال موريس:
- آه! إن دكرور لا يتكلم.. إنه أبكم
قال آخر كلمة فبصقت جيرترود ما ارتشفته من جعة وأخرجتها من أنفها في الكوب وهي تسعل وتبصق، فضحكوا وضحك دكرور بشدة حتى أصدر صوتًا، وقال كوفن:
- فليرحمنا الرب! أبكم وقزم وأم ورضيعها؛ على متن سفينة تحويت!
قال عمار من غير أن يبتسم، وهو يخفي وجهه:
- انتظر حتى ترى بوهاردي ودييجو!
★★★
(2)
جلس الرجال على المرفأ الصغير حتى غابت الشمس وجنّ الليل، تتدلى أقدامهم العارية إلى الماء، يسكبون الجعة في بطونهم بلا توقف، ويمررون غليونًا فيما بينهم، ويتشاورون في أمرهم، فأكمل أوين كلامه:
- ولمَ يجب علينا الذهاب؟ لنعُد إلى الجوف ونأخذ حذرنا أكثر إذا خرجنا
ردّ موريس:
- وإذا خرجنا في مرة ووجدنا عاهرة نانتوكيت أمامنا.. ماذا إذًا؟ أؤكد لك أنها هي من سينكحنا وليس العكس
ضحك الرجال إلا أوين الذي رَد بجديّة:
- وهل ستجدها راسية في ذلك الميناء؟ ثم إن هذا الرجل لا يعرف اسم سفينة الجنود الحوّاتين هؤلاء.. من الممكن أن تكون سفينة أخرى
ردّ مافي:
- سفينة أخرى غير التي قتلت نون؟ فليرحمنا الرب إذًا
- حتى وإن كانت هي نفسها تلك العاهرة فهل ستفجرها هي الأخرى؟
قال عمار:
- ليس لديّ مانع في ذلك
وقاطعه سيجورد:
- من منكم رأى نون في الحقيقة؟
أجاب مافي:
- كلنا تقريبًا.. عداكَ أنت ودكرور بالطبع، وعمار؟.. هل كنت معنا يا عمار؟
- لا، وحتى وإن كنت فلا أتذكر
قال سيجورد:
- إذًا هل كان نون حوت عنبر؟ أم أنه يشبه أطلس؟
أجاب أوين:
- بالتأكيد كان حوت عنبر
- حسنًا ربما هذا يصدّق كلام كوفن، ربما كان حوت العنبر الذي قتله هؤلاء الجنود هو نفسه نون
همس دكرور بعد برهة من الصمت:
- ماذا عن أطلس؟.. أي نوع من الحيتان هو؟
أجابه أوين:
- إنه من الحيتان الرمادية، كان هنري يقول أن ذلك النوع قد انقرض منذ زمن...
- انقرض؟
- أي لم يعد له وجود
قال سيجورد وهو يضحك:
- ربما لذلك كان هنري أكثر من يخشاه
وعاد دكرور يسأل:
- كيف يبحث عنهم إذًا؟
- إنه لا يزال يشعر بهم، ولا يصدق أنهم انقرضوا
ثم قال عمار وهو يضرب بقدمه الماء:
- أين هو على كل حال؟ أليس من المفترض أن يكون قريبًا عندما نلمس الماء؟
رَد مافي:
- أنا أيضًا أشعر أنه بعيد
وقال أوين أخيرًا:
- لا تقلقوا يا رفاق! سيعود في الوقت المناسب.. إنه دائمًا ما يفعل
★★★
انسحب الرجال الواحد تلو الآخر إلى داخل المنزل، وبقيَ دكرور يجلس شاردًا في المحيط الأسود أمامه، لكن يستمع لكل كلمة ويردّ على قائلها دون أن يسمعه أحد، فحتى الصمت كان يسمعه يتكلم ويخبره أن فلان قد ذهب، أو أن فلان يفكر في شيء، فحين يصبح لسانه عاجزًا عن الكلام ينبت في داخل عقله لسانين؛ لسان له، ولسان لباقي العالم.
جلس موريس بجانب دكرور وقال:
- هل ترى أننا يجب أن نذهب إلى ذلك الميناء؟
أومأ دكرور بنعم كأنه لا يوجد خيار آخر، وأردف موريس:
- لكن هل هذا قرار سليم؟
هزّ دكرور رأسه نفيًا وهو يهمس:
- إذا عدنا الآن فسنعود خالين الوفاض كما ذهبنا
فقال موريس:
- إذًا أنت غير مرتاح للأمر مثلي
- نعم، لكن لا أظن أن لدينا خيار آخر
ثم سمعوا صوت خطوات تقترب، فوجداها جيرترود تحمل رضيعها وتهدهده بين ذراعيها، وقالت حين رأتهما:
- أه! حسبتُ أن جميعكم نائمون
ثم ظلت واقفة وراءهم لا تفعل شيئًا سوى تهدئة صغيرها الهادئ بالفعل، ثم قالت:
- ما عِلّتك يا هذا؟!! كيف أصبحتَ أبكمًا بين ليلةٍ وضحاها؟
أثار حنقه بشدة فكرة أنها تأمن العواقب لمجرد أنها في منزلها، أو ربما أن موريس موجود، لكن لم يعِرها دكرور أي اهتمام كأنها لم تتكلم، حتى قال موريس وقد لف ذراعه حول رقبة دكرور وضمّه إليه يمازحه:
- إنه يفقد النطق حين يخرج من الجوف، بوهاردي يفقد بصره، ودييجو يفقد قدماه، وسامبار ورالف يفقدان حياتهما إذا خرجا من الجوف
- اللعنة! وبقيتكم لا يحدث لهم شيء؟
- لا، نخرج معافين كما دخلنا
- وما حاجتكم لذلك الأبكم هنا؟
التفت إليها دكرور، وحدجها بنظرة جعلتها تتراجع، فضحك موريس وعدل رأسه وقال:
- لقد احتجتُ لرجال يعتمد عليهم في المواقف الحرجة
- أه! مثل أخذ طفل من بين أحضان أمه...
نفض دكرور ذراع موريس عن كاهله بعصبية ونهض بسرعة ليواجهها أو ربما ليقتلها، وإذ اعتبرها دكرور ممن لا يستحق عناء إخراج الصوت من حلقه، فاكتفي بأن وقف أمامها لا يفعل سوى النظر إليها بغضب ويأسٍ، فتراجعت جيرترود حتى كادت أن تسقط في الماء، وبادلته نظرة كان فيها من التحدي أكثر من الخوف، فنهض موريس هو الآخر، ووضع يدًا حانية على كتفه، فزجرها دكرور وقفز إلى القارب الذي جاءوا عليه، ولف نفسه بالملاءة لينام، فسمع موريس يقول:
- حقًا! هل ستنام هنا؟
ثم سمعه يقول بعد برهة:
- أعلم أننا قد سببنا لكِ من المتاعب ما لا يتحمله إنسان، لكنكِ مَدينة بالاعتذار لدكرور يا سيدتي
- أنا لا أدين له بشيء
- أخشى أنكِ إن لم تفعلي، فلن...
- تبًا لذلك! لقد سئمتُ منكَ ومن تهديداتك الفارغة يا موريس!
اندهش دكرور وجحظ بعينيه، ثم كشف الغطاء عن رأسه، ورفعها عن القارب ليرى موريس يضحك بعد برهة ويقول:
- أتعلمين مِمَّ سئمتُ أنا؟! لقد سئمتُ من معاملتكِ كما لو أنكِ ملكة فرنسا نفسها، وكل ذلك من أجل ماذا؟.. من أجل أن أجعلكِ تحبينا لدرجة تمنعكِ من إفشاء سرنا، لكن كما هو معلوم دائمًا، هناك طرق أخرى كثيرة وأكيدة لمنعكِ من إفشاء سرنا...
بدأ موريس يقترب من جيرترود ببطء، وهو يقول:
- والآن.. يمكن أن يعيش طفلكِ من بعدكِ، لكن إذا أصدرتِ صوتًا فستقتلين ابنك معكِ
نهض دكرور بسرعة جعلته يتعثر وهو يهرع إليه، فوجد جيرترود يرتعد جسدها من البكاء دون صوت، ثم أمسك بذراع موريس وهز رأسه وهو يهمس في أذنه بعصبية:
- ماذا تفعل يا موريس؟!! إنها لا تستحق!
لعله يثنيه عمّا سيفعل، ويستجدي عطفه ليعفُ عنها، فرَد موريس بهدوء:
- عُد إلى نومك يا دكرور...
لكن دكرور أبى إلا الثبات، واحتضن جسد موريس كله كأنه يكتّفه، حينها جثَت جيرترود على ركبتيها، وأمسكت بيد موريس ووضعت جبينها عليها، وقالت بعد أن علا صوت بكائها قليلًا:
- أرجوكَ يا سيد موريس! أنا آسفة! لن أفعل ذلك... لن أفشي سركم أبدًا، لكن أتوسل إليكَ!
ابتسم موريس لدكرور ابتسامة غريبة، وفك ذراعيه عنه، فوضع يده على رأس جيرترود وربّت عليها، وساعدها على الوقوف، ثم قال بتهكم:
- آه! كم أنا ضعيف أمام البكاء!.. حسنًا لقد قلتُ أن هناك طرق كثيرة لمنعكِ من الكلام صحيح.. صحيح يا دكرور؟!
أومأ دكرور متعجبًا، فأردف موريس:
- أتذكرين حين قلتُ أنني سأعلم حين تخبرين أحدًا عنا؟.. حسنًا هل تعرفين كيف سأعلم ذلك؟ هه؟!..
هزت جيرترود رأسها وهي ترتعد، فقال موريس:
- هاكِ حقيقة عن أطلس.. إنه ما أن يدخل أحدًا جوفه فسيعلم أين هو وإن كان في النصف الآخر من العالم، ربما هو وراءكِ الآن ينتظر عودتنا، فاعلمي أنه سيعرف أين أنتِ أيضًا، وحينها سأعرف أنا أيضًا، فتوقعي أن أزوركِ من حين لآخر للاطمئنان عليكِ وعلى إدموند الصغير، هل أوضحتُ كلامي هذه المرة؟
أومأت جيرترود بهدوء، فقال موريس:
- هذا عظيم! لكن هناك شيء واحد متبقي.. أنتِ لم تعتذري لصديقنا!
قالت جيرترود وهي تنظر إلى قدم دكرور:
- أنا آسفة يا سيد دكرور!
لا يتخيل دكرور ما الذي تشعر به الآن، فحتى هو كان يشعر بالخوف من موريس في هذه اللحظة، ثم قال موريس:
- عظيم!.. والآن يجب أن نعود إلى الداخل لننل قسطًا من النوم، فأمامنا يوم حافل غدًا.. من بعدكِ يا سيدتي!
ورافقها موريس إلى المنزل، ودكرور يقف مكانه مبهوتًا يشاهدهما يبتعدان، حتى نادى عليه موريس:
- هيا يا دكرور! لا يجب أن تنام في ذلك القارب
كان الرجال نائمين على الأرض بجوار وتحت المائدة التي أكلوا عليها، فهمس موريس كأنه يقلد صوت دكرور:
- تصبحين على خير يا عزيزتي!
وصعدت جيرترود، وظل دكرور يشاهدها مذهولًا، وعندما غابت ضربه موريس على رأسه وجعله يطأطئها، فالتفت إليه ليجده يكتم ضحكة ويقول:
- كم أنت أحمق! هل ظننتَ أنني سأقتلها فعلًا؟!
★★★
استيقظ الرجال قُبيل الفجر، فتناولوا إفطارًا متواضعًا، ثم ساعدوا كوفن في تحميل مركبه بثلاثة براميل من الجعة، التي اتضح أنه يصنعها ويتاجر بها في المدينة، فقال عمار بعد أن علم ذلك:
- لذلك كان سخيًّا في الشراب فقط
ثم انتهوا من تحميل المركب قبيل الظهيرة، وظلوا عليه يشاهدون كوفن وهو يودّع بناته وجيرترود، وقد توقف كثيرًا عند جيرترود ورضيعها، بعدها عاد إلى المركب وبدأ يبحر به من دون مساعدة الرجال، فأخذ الفتاتان يلوّحان إليه، ووقفت جيرترود تحدّق في موريس بالذات كأنها صنم، فلوّح إليها موريس وهو يبتسم، وأبحر المركب حتى غاب عنهم.
كان موريس يقف عند مقدمة المركب العالية، كأنه قبطان هذا المركب؛ حين سأل كوفن كأنه أحد بحارته:
- متى سنصل يا سيد كوفن؟
جفل كوفن ورَدّ:
- أه! ربما بعد الغروب، إن بقيَت الرياح على حالها
ثم سأله عمار:
- متى تركتَ مهنة التحويت يا سيد كوفن؟
- آخر العام الماضي
- هل هذا بسبب ما يقوله هؤلاء الجنود الحوّاتون؟
- ربما.. لكنني دائمًا ما كنت أشعر أن هناك شيئًا خاطئًا في المحيط، هم فقط جعلوا الأمور أوضح
قال أوين:
- إذًا أنتَ تخشى الناس الذين يعيشون في بطون الحيتان؟ أم الحيتان نفسها؟
نظر كوفن إلى الرجال ثم إلى البحر أمامه ورَدّ:
- لم أخشَ حوتًا أبدًا يا سيّد، لكن أخبرني.. ألن تخشى رجلًا يعيش في ظلمات البحر، يخرج منه إلى متن سفينتك؛ فقط من أجل أن يقتلك؟
- كيف يبدون هؤلاء الرجال في ظنك؟
انتبه كوفن إلى أوين وأجاب:
- يقول الجنود الحوّاتون أنهم يبدون كرجال عاديين، لكن لا أدري.. لم أقابل أحدهم من قبل
فكر دكرور "ربما أنت الوحيد الذي قابلهم وبقيَ على قيد الحياة"، ثم ذهب عنهم وجلس وحده في القارب المربوط بالمركب، بعدها بدأت الرياح تشتد والمركب يسرع، فقال كوفن:
- أرجو أن نصل والشمس لا تزال في السماء!
ثم نزل عمار وانضم إلى دكرور، وخلع عنه طاقيته على سبيل المزاح، لكنه انتهى حين ضربه دكرور، فأعاد إليه طاقيته وقال:
- كم تصبح عكر المزاج حين تفقد صوتك!
رمقه دكرور بطرف عينه ثم عاد إلى شروده في البحر، فأردف عمار:
- حسبتُ أن أطلس سيأتي بحلول الآن، لكنتُ عدتُ إليه وتبًا لذلك العجوز ولتلك المدينة ولعاهراتها.. أه! ربما ليس العاهرات
ضحك دكرور بشدة فقال عمار:
- ماذا؟! ألم تكن أنت السبب في ذهابي معكم؟ لقد قلتها بذلك اللسان عديم الفائدة "سنجد لك فتاة يا عمار" ألم تقل ذلك أيها الوغد؟
مدّ دكرور إليه يده للمصافحة وإبرام الاتفاق وهو لا زال يضحك، فصافحه عمار وقال:
- وكأن هذا سيضمن لي شيء
ثم جاءهم صوت من فوقهم من على المركب يقول:
- لن يفعل لك القديس دكرور شيئًا، دعك منه يا عمار وسيحقق سيجورد كل أحلامك
- لا بأس من التأكد يا سيجورد.. أليس كذلك؟
وظلوا على حالهم طوال النهار، يبحرون بمحاذاة شاطئ طويل ورفيع، حتى أنهم كانوا يرون جهته الأخرى في بعض المناطق، ثم بدأوا يلتفون من حوله إلى الجهة الأخرى كأنهم يعودون أدراجهم، لكنهم ابتعدوا عن الشاطئ هذه المرة، وإن لم يزل في مرمى البصر.
وكانوا كلما أبحروا أكثر في ذلك الاتجاه كلما زاد عدد المراكب والسفن التي يصادفونها، حتى لاحت من أمامهم يابسة يتجهون صوبها، فقال عمار:
- هل وصلنا؟
رد كوفن:
- كدنا نصل.. هل معك شيئًا من أجلي يا سيد أليكساندر؟
ودون أن يتكلم؛ أخرج موريس من جيبه صُرةٍ صغيرة من العملات وألقاها إلى كوفن، فالتقطها الأخير ونظر بداخلها وتفحصها بعناية، ثم وضعها في جيبه وقال باستحسان:
- حسنًا.. لا بأس يا سيد أليكساندر
وصلوا إلى تلك اليابسة أخيرًا، فوجدوا أنها ليست نهاية الطريق، بل كانت تنفتح عند مضيق يفضي من وراءه إلى خليج واسع، وبعد أن عبروا ذلك المضيق قال كوفن:
- ها نحن ذا!
كانت المدينة تحتل جزءًا كبيرًا من شاطئ ذلك الخليج، وكان الميناء وما وراءه أكثر شيء واضح فيها، إذ كان أكثر اكتظاظًا وربما أكثر سوادًا، يخرج منه أعمدة من الدخان الأسود من أكثر من موضع، كأنها كانت تحترق وقد أخمد ذلك الحريق.
وقف الرجال في صف يشخصون بأبصارهم نحو الميناء، توقع دكرور أن ذلك الميناء يعج بسفن الحيتان الذاهبة والآتية والراسية، لكنها أيضًا لم تكن قليلة على الثلاث أرصفة الكبيرة التي تخرج من الميناء كأنها ثلاث ألسنة، فقط كانت أقل من المتوقع، أو ربما هو لم يرَ هذا العدد من الحوّاتات في مكان واحد من قبل.
ودون أن ينبس أحدًا منهم بكلمة قال كوفن:
- هل اشتقتم إليها لهذه الدرجة؟! كأنكم ترونها لأول مرة!
وتقدموا أكثر نحو الميناء واقتربوا من الرصيف الذي في المنتصف، والذي كانت ترسو سفينة إلى أحد جانبيه، ويبدو من أصوات البحارة من عليها، والحشد الذي في انتظارها؛ أنها قد وصلت للتو هي الأخرى، فاتجه كوفن إلى جانب المرفأ الآخَر، وأثناء ذلك سمعوا أوين يقول:
- فلتحل بي اللعنة!
تعجب دكرور ونظر إلى أوين فوجده ينظر وراءه وعلى وجهه علامات الرعب، فالتفت إلى حيث ينظر ليجد السفينة الأخرى والتي كانت تبدو سفينة صيد حيتان عادية وربما أصغر من العادية بقليل، حتى سمع أوين من خلفه يقول:
- يا رفاق! إنها هي... العاهرة!! إنها عاهرة نانتوكيت!
فعلموا أنها ليست سفينة صيد حيتان عادية.
★★★
(3)
تشتّت أطلس وشعر بالاضطراب كما لم يشعر من قبل، شعر به في كل شيء من حوله حتى في الهواء فوق السطح، فهو الآن يشعر برجاله لكن غير متأكد إن كانوا قد عادوا، ويرى الحوت البعيد بأم عينه وليس بعين أخرى، إضافةً إلى ذلك كان يسمع صوتًا بشريًّا آتيًا من فوق السطح.
لم يكن يسمع الأصوات التي في الهواء كما يفعل في الماء، لكن ذلك الصوت البشري كان قويًا يخترق الماء والأذن، يعلم أن ذلك صوت صراخ البشر عندما يتألمون، لكن لَم يعلم أبدًا لِمَ يفعلونه، فكثير من الكائنات تبكي لكن دون أن تحدث كل هذه الجلبة.
شتّته ذلك الصوت عن أي شيء آخر، ورأى الحوت يبتعد أكثر، ورآه ينزل تحت السطح ويتوقف ويلتفت، بل أطلس هو من جعله يفعل ذلك، شعر بما يشعر به، وأكثر ما كان يشعر به هو الخوف، لم يعلم إن كان خوفًا منه أو من كيانج أو من الصراخ البشري، فتركه يمضي في سبيله بعد أن علم أين هو وحفظ ذلك المكان حتى يعود إليه في وقت آخر أنسب.
وعاد ينتبه إلى صوت الصراخ المزعج الذي كان مصدره من فوق كيانج، فعلم أنه أحد سكانه يبكيه وأنه وحده، إذ كان جوف كيانج خاليًا من سكانه، وكيانج نفسه كان مصابًا بحربة يتدلى منها حبلها في الأعماق، وفي كامل جسده إصابات بالغة أشد من إصابات نون، فأدرك أطلس متأخرًا أن السفينة المائلة التي صادفها قبل قليل؛ هي ما فعل ذلك، وأنها مصدر خوف الحوت الآخر.
ظهَر أطلس فوق السطح إلى جانب كيانج ونفث، فسكت صوت الصراخ، شعر أطلس أنه لا يجب ترك ذلك الرجل وحده في ذلك المحيط المظلم ليعيش فوق ظهر حوت ميت، لكنه أيضًا لا يمكنه المكوث إلى جانبه للأبد، ففكر أن يبتلعه وربما يسكنه جوفه، وشعر أن هذا واجبه تجاه كيانج أولًا وهذا الرجل ثانيًا، كما أنه ربما سيعرف منه ما قد حدث.
ففتح أطلس فمه وأخرجه فوق السطح يسنده على كيانج، وبعد مدة سمع الرجل يتكلم وهو يبكي، وشعر به يربّت على فمه قبل أن يدخله، ثم أطبق أطلس عليه برفق، وسحب نفسًا كبيرًا قبل أن يودّع كيانج بأن يدفعه بفمه كأنه يقبّله، وغاص عائدًا من حيث أتى.
ولم يعجَب من أن رجاله قد اختفوا على اليابسة مجددًا، فلم يشغل باله سوى بأن يعود إلى اليابسة حيث تركهم في أقرب وقت، ليكون في انتظارهم قبل أن يعودوا.
استغرق بقية الليل وجزء من النهار حتى خرج من المحيط الهادي، يسبح دون كلل وحتى عندما كان يصعد للتنفس فكان يفعلها وهو يسبح، ولم يلبث حتى وصل إلى مفترق الطرق حيث الطريق المختصر من بين الجليد والطريق الطويل الذي أتى منه، وقبل حتى أن يقرر أي الطريقين يسلك؛ راوده الشعور برجاله مرة أخرى.
توقع أطلس أن السبب في دخولهم وخروجهم المتكرر من الماء وإلى اليابسة؛ هو أنهم يعودون إلى اليابسة عندما لا يجدونه في المياه، وذلك ما جعله يقرر أن يسلك الطريق الصعب والغير مأمون لتوفير الوقت والوصول أسرع، فقد كان طريق كالمتاهة في داخل الجليد نفسه، وضيّقًا بالكاد يتّسع لحوت في حجم أطلس، لكن ليس أي من ذلك ما يجعله خطرًا، بل كونه تحت الماء من دون متنفّس؛ ما جعله مقبرة للحيتان.
خرج أطلس مرة أخيرة إلى السطح حيث الهواء والنَّفَس، ليجد بجانبه يابسة جليدية عظيمة شاهقة، فسحب نفسًا كبيرًا مَلأ رئتيه، ليعينه على البقاء تحت الماء لأطول فترة، ثم لم يغُص كثيرًا بمحاذاة تلك اليابسة حتى وجد أول الطريق، والذي كان عبارة عن صدع عظيم تحت الماء في قلب تلك اليابسة الجليدية.
فسبح إلى داخلها بسرعة، معتمدًا في طريقه على ما يذكر من آخر مرة سلك ذلك الطريق مع كيانج، فكان ذلك النفق يتفرع إلى إثنين آخرين فيتخذ أحدهما، ثم ثلاثة آخرين فيتخذ أحدهما وهكذا، حتى وصل إلى قاعة كبيرة كأنها قلب هذه اليابسة، لا يذكر أنه مرّ بها من قبل، فصعد أعلاها طلبًا للهواء لكنه عاد خائبًا وأراد أن يكمل طريقه، لكن استوقفته رؤية حوت صائب متجمّد ومحفوظ في داخل الجليد.
هرع أطلس وابتعد عنه بحثًا عن مخرج من تلك القاعة، ورأى حوت آخَر لم يعرف اسمه ثم حوت قاتل ثم غيرهم كثيرين، وتظاهر بأنه لم يرَ شيئًا وقد زاد توتّره وزادت سباحته العصبية، وخرج من أول فتحة يجدها، وظل يسبح بداخلها حتى شعر بها تضيق، وقبل أن يصل إلى آخرها علم أن آخرها سد، فعاد أدراجه بسرعة وقد بدأ يشعر أن هواءه ينفد، فعاد إلى القاعة وسلك طريقًا آخَر أطول من السابق لم يعلم له من آخِر، فأدرك أنه ربما يكون الطريق الصحيح أو على الأقل طريق يخرجه من تلك المتاهة إلى السطح.
وظل يسبح فيه وهو لا ينتهي، والهواء في رئتيه ينتهي، لم يكن الهواء في رئتيه قليلًا لهذه الدرجة من قبل، وذلك ما جعل شعوره بالاختناق أقرب وأسرع وأشد، فزاد من سرعته ممّا جعل الهواء ينفد أسرع، فزفر بعضًا ممّا في رئتيه دون أن يجرؤ على أن يشهق الماء.
حينها لم يقدر على التفكير في شيء أو الشعور بشيء، أخذ يضرب بذيله وبجسده سطح وجدران ذلك النفق يكاد يكسره، ولا يملك من أمره سوى أن يكمل السباحة علّه يدرك نهاية الطريق، قبل أن يدرك نهاية حياته.